تعتبر منطقة الجنوب الشرقي التونسي التي تضم ولاية تطاوين وتشكل في مساحتها ربع مساحة الجمهورية التونسية والمتاخمة لدولتين هما ليبيا والجزائر فضاء لصحراء شاسعة مرت عليها قبائل عديدة وقوافل تجارية طيلة قرون ماضية. وهي أيضا بوابة المشرق العربي الرابطة مع المغرب وعمق البلاد الصحراوي الذي يتوغل جنوبا في افريقي.
والمنطقة أصلا لقبائل البربر التي تأثرت بحملة بني هلال وزحف القبائل العربية، مما اضطر البربر للالتجاء لرؤوس الجبال لبناء قراهم التي تمتد على أطراف المدينة . قرى تتألف من دشر ودويرات ومباني عجيبة التصميم كقصور غمراسن وأولاد سلطان وأولاد دباب. ويتميز الجنوب الشرقي بآثاره الخالدة على امتداد الحقب التاريخية السحيقة منذ عهد الديناصورات إلى بداية وجود الإنسان وكل منطقة من مناطق الجنوب تتميز بحضارتها الثرية..
تقع مدينة تطاوين في أقصى الجنوب التونسي ويعني اسمها في البربرية "العيون" وهي من أكبر المدن التونسية فمساحتها "38.889 كلم2" وتتنوع فيها التضاريس فهناك السهول والجبال والصحراء الشاسعة ومناخها جاف غير أنها غنية بالثروات الجوفية. ويبلغ عدد سكانها "142" ألف نسمة.
وهي مثيرة الجمال، خلابة. وقد عرفت السياحة في مدن الجنوب التونسي تطورا مشهودا في عهد الرئيس زين العابدين بن علي الذي قرر أن يكون يوم "12 نوفمبر/ تشرين الثاني" من كل سنة يوما خاصا للسياحة الصحراوية.
ويفد اليوم على مدن الجنوب مئات الآلاف من السياح سنويا وتحظى تطاوين بنصيب وافر منهم حيث تنتشر في أرجائها "متاحف طبيعية" غاية في الروعة وهي تمكن السياح من رؤية الماضي بعيون الحاضر. وترجع أشكال الحياة البشرية في المنطقة إلى عهود غابرة وتدل على ذلك عديد المواقع الأثرية التي تم اكتشافها في قلب الصحراء مثل "تيرت، عين الدوك، الدويرات وغمراسن" حيث تم العثور على مغارات تم استعمالها من قبل من سكنوا هناك قبل الميلاد .
والمنطقة غنية أيضا بالمعالم الأثرية التي ترجع إلى العهود البونيقية كما عرفت تطاوين الحضارة الرومانية حيث أنشأ فيها الرومان عدة منشآت ذات صبغة دفاعية منها الحصون بأحجام مختلفة، أهمها حصن تلالت وحصن رمادة وحصن الفطناسية إضافة إلى تحصينات ومنشآت زراعية وسدود ومواجل وفسقيات مازالت آثارها منتشرة في كامل المنطقة. وتحفل تطاوين بتحصينات تعود إلى فترة الفتح الإسلامي الذي أدخل البلاد في فترة رخاء ورفاهية. وعلى قمم الجبال بنى البربر "السكان الأصليين" قراهم متميزين بنمط حياة خاص أملته الظروف المناخية، ومن أشهر هذه القرى "شنني والدويرات".
* أسطورة "أصحاب الكهف"
تقع قرية شنني على بعد "18 كلم" من مدينة تطاوين وهي معروفة بمساكنها المحفورة داخل الجبل وأسطورة "النيام السبع" أو ما يعرف هنا بـ"الرقود السبع". وحسب الأسطورة التي يتداولها الناس في المنطقة فإن "الرقود السبع" هم أصحاب الكهف الذين وردت قصتهم في القرآن الكريم. وما أن يزور المرء ذلك المكان حتى يقص عليه الأهالي قصة أولئك الأشخاص السبعة الذين اختاروا كهفا في قريتهم ليستريحوا فيه من عناء السفر فاستفاقوا بعد قرنين من رقودهم ليكتشفوا أن أجسامهم زادت أمتارا وأن كل شيء في الخارج قد تغير فقرروا عندها الرجوع إلى الكهف ليناموا إلى الأبد.
وليس ببعيد عن شنني تقع قرية الدويرات إلى الجنوب من تطاوين على بعد "20 كلم" وهي مشهورة بمسجدها ومناظرها الطبيعية الجميلة وتشكل سلسلة جبال الظاهر بالجنوب التونسي النافذة الوحيدة التي تطل على التراكيب الجيولوجية التي تغطيها رمال الصحراء وتعتبر الطبقات الصخرية المكونة لهذه السلسلة شاهد على ميلاد محيط "التيتس" منذ أواخر الحقب الجيولوجية الأولى "260 مليون سنة".
فوجود العديد من المتحجرات والطحالب والإسفنج وذات الفصوص الثلاثة إلى غير ذلك من الحفريات البحرية الأخرى يدل على نوعية وثراء الحياة في ذلك المحيط القديم الذي من مخلفاته البحر الأبيض المتوسط.
* رحلة "جيولوجية" في ذاكرة الأرض
وتخبرنا الروايات العلمية الدقيقة أن ارتفاع وانخفاض مستوى مياه بحر "التيتس" على الحافة الشمالية للقارة الافريقية طيلة الحقبة الجيولوجية الثانية أدى إلى العديد من الامتدادات الواسعة النطاق والتي غزت اليابسة في العصر الجوراسي العلوي "150 مليون عام" والعصر الطباشيري العلوي "90 مليون سنة" ويظهر ذلك من خلال الترسبات الغنية بالحفريات البحرية كما أدت إلى تراجعات هامة خلال العصر الترياسي "120 مليون سنة" والعصر الطباشيري السفلي "100 مليون سنة" تاركة المجال للحياة القارية كما تشير على ذلك جذوع الأشجار المتحجرة وبقايا عظام الديناصورات. وتمتاز الحقبة الجيولوجية الرابعة بظهور الإنسان الأول بحضارته البدائية وبميلاد الصحراء الكبرى وكثبانها الرملية المكونة للعرق الشرقي الكبير والتي تخللتها العديد من حقول الورود الرملية.
وتدعو المنطقة زوارها لرحلة "جيولوجية" في ذاكرة الأرض لاكتشاف أهم ثلاثة مواقع خلدها الزمان هنا: سهل بني غدير أو بقايا بحر "التيتس" والحواجز "الجوراسية" لوادي الزعفران وأخيرا جبل ميتر أو منتزه "الديناصورات". ففي مدخل مدينة غمراسن، وفي إحدى السهول العديدة المنتشرة والمكونة من الرسوبات من العصر الجوراسي الأعلى، موقع يحتوي على حيـوانات متحجرة كانت تحيا عندما كـان البحر يغمر هذه الربوع منذ "150" مليون سنة وكان المناخ المداري يوفر كل شروط العيش والتكاثر لهذه الحيوانات البحرية لتكون بهذه الوفرة وهذا التنوع. ويعد سهل بني غدير متحفا مفتوحا في الهواء الطلق يبرز قدرة الإنسان في التحكم بالطبيعة والتغلب على قساوتها باعتماده الفلاحة مصدرا للرزق.
كما تكونت في وادي الزعفران العديد من الحواجز الصخرية من المرجان أساسا وهي لا تزال ظاهرة في طبقات الحجارة الصلبة التي انبنى منها قصر الحدادة، وبناءات أخرى على الضفة الشمالية لوادي الزعفران على سفح الطريق الرابط بين غمراسن وبني خداش. ويذكر هذا المشهد بجزر "البهاماس".
وعند خاتمة الطريق الملتوية الذي يصل إلى جبل ميتر وعلى أعلى قمة هذا الجبل تم العثور على بقايا هذه الزواحف الضخمة وكذلك بقايا تماسيح وسلاحف وأسماك. كلها كانت تعيش منذ "100" مليون سنة في سهول غندوانة الشاسعة والتي كانت تشقها أنهار عديدة وتغطيها غابات كثيفة كما تدل على ذلك جذوع الأشجار المتحجرة. وما تزال الحفريات والأبحاث متواصلة في المنطقة وهي تكشف كل يوم عن أسرار هذا العالم المفقود.
وعلى بعد "40 كلم" من تطاوين هيئت الصحراء بمحمية طبيعية تعد شاهدا على قدرة الإنسان في التغلب على قساوة المناخ الصحراوي. فكانت محمية "عين دكوك" الرئة التي تتنفس منها مدن المنطقة وهي تمتد على مساحة "5740 هكتارا" ومهمتها الحفاظ على المحيط وحماية الوسط الطبيعي إضافة إلى تكوين فضاء للبحوث حول المناطق القاحلة والحفاظ على التوازن الطبيعي وبعث مناطق خضراء ومراكز ترفيه وبعض الوحدات السياحية. كما تلعب المحمية دورا هاما في الحفاظ على الثروة النباتية والحيوانية الصحراوية.
* صناعات من ايماءات الماضي الجميل
تفتخر تطاوين وما جاورها من مدن بصناعاتها التقليدية الغنية بأنواعها وأشكالها وأشهرها المنسوجات البدوية ذات التقنية الأفقية وهي أساسا لحاجة الرحل مثل "الخيمة" أما منسوجات القرى الجبلية فهي ذات تقنية عمودية مثل "الكليم، البخنوق، التعجيرة" وهي أساسا لتأثيث المنزل ولباس المرأة. وتزيد المنسوجات جمالا ورونقا التطريزات والأشكال البربرية التي تزينها.
وتوفر صحراء تطاوين لزوارها فرصة للتفرد والتأمل وكذلك لتنظيم رحلات وجولات رياضية "رالي" على الدراجات النارية والسيارات الصحراوية برا والمناطيد جوا حيث يكتشف المرء آنذاك مشاهد من حكايا الخيال فالمكان أجمل والألوان أرق وألطف والشاعرية هي العلامة المميزة. وتشهد المنطقة عديد التظاهرات والمهرجانات الثقافية إلى جانب المهرجان الدولي للقصور الصحراوية ويعد مهرجان الألعاب الشعبية ببني مهيرة من أهمها وهو ينتظم في منطقة بني مهيرة "40 كلم" إلى الشرق من تطاوين في شهر أبريل من كل عام وتقدم فيه جميع الألعاب التي اندثرت أو التي انحصرت ممارستها بحكم التطور الذي عرفته البلاد.
* استوديوهات عالمية في قلب الصحراء
وتزهو الصحراء بحلة مزركشة يغلب عليها لونا ذهبيا يحيل المكان إلى واحة غناء تنضح أجواءها بعذوبة وسكون رائع جعل من أرجائها "استوديوهات" ضخمة للسينما العالمية.. بعدما حولتها قدرة الخالق للوحة رائعة تبهر الأبصار. وليس ببعيد عن تطاوين يمكننا استعادة ذكريات فيلم "حرب النجوم 2" بعد أن احتفظ المكان بالديكورات الغريبة، العجيبة التي صور فيها المخرج العالمي جورج لوكاش أجمل مشاهد فيلمه بعدما أسرته فتنة الموقع الشبيه لتلك المواقع الساحرة فوق سطح القمر..
كما تعج الصحراء بالأجواء الكرنفالية الرائعة توقا لمزيد من الرومنطقية فالمناظر الخلابة والمساحات الشاسعة وشلالات الألوان المتناسقة جعلت من صحراء تونس مكانا زاخرا بكل عناصر الفتنة والجمال مما جعلها قبلة السياح من كل حدب وصوب لممارسة ما تشتهي النفس من رياضات أكثرها متعة ركوب منطاد يحملنا نحو السماء الصافية لرؤية مشهد بانورامي لصحراء ساحرة وهبها الخالق واحات أخاذة تضج بالحياة..
* القصور الصحراوية.. فن معماري فريد
تمثل القصور الصحراوية في الجنوب التونسي أهم الثروات السياحية وتعد مثالا على عراقة فن المعمار وتفرده وقد كان البربر أول من أقاموا هذه القصور حين اضطروا للالتجاء لرؤوس الجبال هربا من حملة بني هلال وبنوا قراهم وبيوتهم فوق قمم الجبال.
واليوم ثمة أكثر من 150 قصرا في تلك المنطقة، مازالت ماثلة للعيان وبعضها أعيد ترميمه واستغل لأغراض سياحية واقتصادية فقصر حدادة أصبح فندقا يأتيه السياح الأجانب من كل صوب نظرا لخصوصيته وطبيعة بنائه الفريدة.